أحدث تطبيق “ديب سيك” الصيني ضجة كبيرة في أسواق الأسهم وعالم الذكاء الاصطناعي، بصعوده المذهل إلى القمة هذا الأسبوع، حيث نافس تطبيق “شات جي بي تي”، التابع لشركة “أوبن إيه آي”، على عرش أكثر التطبيقات المجانية تنزيلا على متجر تطبيقات “Apple”، وقد صدم ظهوره قطاع التكنولوجيا الدولي، بعد أن أظهر قدرته على تحقيق أداء مماثل للمنصات الغربية المشابهة، مقابل جزء بسيط من التكلفة.
وأدى الصعود السريع للتطبيق الصيني إلى تقهقر عمالقة شركات التكنولوجيا بوادي السيليكون في بورصة وول ستريت، نتيجة لعمليات بيع واسع النطاق طالت أسهم أبرزها، وأفقدتها نحو تريليون دولار من قيمتها السوقية. وذكرت شركة “ديب سيك” أن تكلفة المستخدم الشهرية لتطبيقها تبلغ نحو نصف دولار فقط، مقارنة بـ20 دولارا لتطبيقات النماذج الغربية المماثلة. وأرجعت الشركة هذا التفاوت الكبير في التكلفة إلى انخفاض نفقات تطوير وتشغيل نموذجها بشكل كبير مقارنة بالمنافسين، حيث لم تتجاوز تكلفة تطويره ستة ملايين دولار. في المقابل، تقدر تكاليف تطوير النماذج التي أطلقتها شركات غربية كبرى مثل “أوبن إيه آي” و”ميتا” و”غوغل” بما يتراوح بين 100 مليون دولار ومليار دولار، مما يبرز الفجوة الكبيرة في الاستثمارات بين الطرفين.
يرجح المحللون أن تكون الشركة الصينية قد استطاعت على الأغلب، تطوير نموذجها دون الحاجة إلى الشرائح الأمريكية المحظور تصديرها للصين، إما عبر تطوير شرائح خاصة بها قادرة على المنافسة، وإما عبر الاعتماد على طرق أخرى مختلفة لا تحتاج إلى هذه الشرائح، مما يضع “أوبن إيه آي” وشركات الذكاء الاصطناعي الأمريكية في موقف حرج، فهي التي أقنعت العالم أن تطوير هذه النماذج يحتاج إلى شرائح شركة “نفيديا” الباهظة. ويؤكد الباحثون الصينيون أنهم يعتمدون على تكنولوجيا متاحة بالفعل، بالإضافة إلى استخدام أكواد مفتوحة المصدر، وهي برمجيات يمكن لأي شخص الوصول إليها أو تعديلها أو توزيعها مجانا.
وفي مقابلة مع وسائل الإعلام الصينية، أشار ليانغ وينفنغ مؤسس شركة “ديب سييك” إلى أهمية جعل الذكاء الاصطناعي متاحا للجميع وبأسعار معقولة، مضيفا أن الفجوة بين الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة والصين، من وجهة نظره، لا تتجاوز عاما أو عامين.
وفي تعليقه على تطبيق “ديب سيك”، قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إن التطبيق يجب أن يكون بمثابة “جرس إنذار للشركات الأمريكية التي بات يتعين عليها التركيز بشكل كامل على التنافس من أجل الفوز”، لكن ترامب اعتبر أن هذه الصدمة قد تكون أيضا إيجابية بالنسبة لكبرى شركات التكنولوجيا الأمريكية، قائلا “بدلا من إنفاق المليارات والمليارات، ستنفق أقل على أمل أن تصل إلى الحل نفسه”.
ويقول المراقبون إن المثير للدهشة أن التهديد الأكبر لهيمنة وادي السيليكون لم يأت هذه المرة من إحدى شركات التكنولوجيا الكبرى في الصين، بل من شركة ناشئة غير معروفة تأسست قبل أقل من عامين، ويعتقد المراقبون أن مفاجأة التطبيق الصيني، حولت النشوة بشأن الذكاء الاصطناعي إلى حالة من الذعر، وفتحت باب المنافسة على العقول الذكية على مصراعيه.
ويشير محللون إلى أن هذا التطور قد يشكل تحولا جذريا في صناعة الذكاء الاصطناعي، فيما تثير تساؤلات حول جدوى الاستثمارات الضخمة الموجهة لهذا القطاع، وما إذا كانت هذه الصناعة تحتاج فعليا إلى مليارات الدولارات لتحقيق تقدمها.
وفي الأسبوع الماضي، انضمت شركة “أوبن إيه آي”، إلى مجموعة من الشركات الأخرى التي تعهدت باستثمار 500 مليار دولار في بناء البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة، وفي أحد إعلاناته الأولى منذ عودته إلى منصبه، وصف الرئيس ترامب المشروع بأنه “أكبر مشروع للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي في التاريخ حتى الآن” ومن شأنه أن يساعد في الحفاظ على “مستقبل التكنولوجيا” في الولايات المتحدة.
وفي العام الماضي، قال سام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة “أوبن إيه آي”، إن صناعة الذكاء الاصطناعي ستحتاج إلى تريليونات الدولارات من الاستثمارات لدعم تطوير الرقائق المطلوبة لتشغيل مراكز البيانات التي تحتاج إلى الكهرباء لتشغيل النماذج المعقدة للذكاء الاصطناعي.
وفي يونيو الماضي، دق محللون في بنك الاستثمار الأمريكي “جولدمان ساكس” ناقوس الخطر بشأن الإنفاق على الذكاء الاصطناعي من خلال نشر مذكرة بعنوان “جيل الذكاء الاصطناعي: إنفاق أكثر من اللازم، وفوائد أقل من اللازم؟”، وتساءلت الشركة عما إذا كان استثمار تريليون دولار في هذا القطاع على مدى السنوات القليلة المقبلة سيؤتي ثماره.
ويرى الخبراء في قطاع الذكاء الاصطناعي أن إنجازا واحدا، مهما كان مذهلا، قد لا يكون كافيا لمواجهة سنوات من التقدم الذي حققته الولايات المتحدة في هذا المجال. ويقولون إنه من غير المرجح أن يتحول العملاء بشكل كبير إلى شركة ناشئة صينية، وأن الوقت فقط هو الذي سيحدد ما إذا كان تهديد “ديب سيك” حقيقيا أم لا، حيث إن السباق في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لا يزال مستمرا.
بالإضافة إلى ذلك، لم يثبت التطبيق الصيني، بحسب الخبراء، بعد قدرته على التعامل مع بعض الإمكانات الطموحة للغاية في الصناعات التي لا تزال تتطلب استثمارات ضخمة في البنية التحتية. ويشيرون إلى أن الشركات الكبرى والكيانات السيادية ليست مهتمة بحلول أرخص لمشروعات الذكاء الاصطناعي، بل تركز على الطرق الأسرع لتحقيق النتائج المحددة. ويعتقد الخبراء أن الصين ما زال أمامها طريق طويل لتصبح لاعبا عالميا رائدا في مجال الذكاء الاصطناعي.
ومن المقرر أن تبدأ هذا الأسبوع سلسلة من الشركات التكنولوجية العالمية بالإعلان عن أرباحها السنوية، لذا فإن استجابتها للمفاجأة المذهلة التي أحدثتها شركة “ديب سيك” قد تؤدي إلى تحركات مضطربة في أسواق الأسهم خلال الأيام والأسابيع المقبلة.
ومع تحدي “ديب سيك” لشركات الذكاء الاصطناعي العملاقة الراسخة، يتساءل الكثيرون عما إذا كانت مفاجأة “ديب سيك”، بداية تحول زلزالي في الصناعة أم مجرد مرحلة أخرى في دورة الضجيج حول الذكاء الاصطناعي، ويضيف هؤلاء أنه بغض النظر عن مكان الحقيقة، فإن هناك شيئا واحدا مؤكدا، هو أن سباق التسلح بالذكاء الاصطناعي لا يزال جاريا ولم ينته بعد، فالشركات في جميع أنحاء العالم تسارع وتحث الخطى للبقاء في المقدمة.