يشهد العالم في الوقت الراهن طفرة رقمية غير مسبوقة في تقنيات الذكاء الاصطناعي، بدأت تشق طريقها إلى مختلف مجالات الحياة والعلوم التطبيقية والإنسانية، بدءا من الطب والهندسة والصناعة والابتكار، وصولا إلى التربية واللغات والآداب والفلسفة والثقافة والإعلام والصحافة، وغيرها من المعارف والعلوم.
وبالتزامن مع التوسع السريع في مجال الذكاء الاصطناعي تزايدت المعلومات المتاحة حول ماهيته وقدرته على توفير المعلومات المطلوبة للمستخدمين؛ إذ يعتمد البعض على أسس علمية وتقنية سليمة للحصول على معلومات دقيقة وموثوقة، بينما قد يحصل آخرون على معلومات أقل دقة، تتضمن أحيانا مبالغات تثير المخاوف أو توقعات زائفة.

وفي ظل التداخل بين الحقيقة والاختلاق، يصبح من الضروري التريث لفهم الواقع بشكل دقيق، من أجل تقييم تأثير هذه التقنية على المجتمعات ومستقبلها وطريقة تفاعل الناس معها في مختلف جوانب حياتهم.
في هذا السياق، تشير العديد من الدراسات العلمية إلى أن الذكاء الاصطناعي أصبح قادرا على أداء مهام متعددة بكفاءة عالية، منها تحليل البيانات الضخمة بسرعة فائقة واستخلاص نتائج دقيقة؛ إذ يمتلك قدرة متقدمة على التعرف على الصور والأصوات بدقة قد تتجاوز الأداء البشري أحيانا، ويقدم توصيات ذكية تظهر في مختلف المنصات الإلكترونية، علاوة على استخدامه في تحسين التشخيص الطبي عبر نماذج التعلم العميق، وتشغيل روبوتات المحادثة التي توفر خدمة العملاء على مدار الساعة.
ورغم الطفرات المتقدمة التي حققها الذكاء الاصطناعي في حياة الإنسان من خلال تقديم خدمات متعددة في مجالات مختلفة، يرى مراقبون أن بعض التصورات التي تربط بين قدراته والوعي أو الإدراك البشري تمثل نوعا من المبالغة أو الفهم غير الدقيق لطبيعة هذه التقنية.
ويشير هؤلاء إلى أن الذكاء الاصطناعي لا يمتلك وعيا أو شعورا كالإنسان، بل يعتمد على نماذج رياضية وبرمجيات تم تدريبه عليها، تمكنه من معالجة المعلومات والتنبؤ ضمن نطاق محدد.
وفي السياق ذاته، تلفت آراء أخرى إلى أن قدراته في الاستقراء والتوقع تظل محدودة مقارنة بالقدرة البشرية، التي تتميز بالوعي والإدراك كجزء من تكوين الإنسان كمخلوق مكرم.
وبناء على تحليلات متعددة، تنتشر في الآونة الأخيرة تصورات واسعة النطاق تدعي أن الذكاء الاصطناعي سيقضي على جميع الوظائف البشرية، لكن في المقابل تشير دراسات عدة إلى أن هذه التقنية، رغم ما قد تحدثه من تحولات ملموسة في سوق العمل، فإنها تخلق في الوقت ذاته فرص عمل جديدة تتطلب مهارات متجددة ومتنوعة.
ويعتبر توفر معلومات موثوقة ودقيقة حول الذكاء الاصطناعي من العوامل الحاسمة في توجيه السياسات العامة نحو اعتماد التكنولوجيا بأسلوب علمي ومسؤول، مما يسهم في تعزيز الابتكار في الجامعات والمؤسسات والشركات حول العالم وتمكين الأفراد من التكيف والاستعداد للتغيرات المستمرة في بيئة العمل.
على الجانب الآخر، فإن انتشار معلومات مضللة وغير موثوقة حول تطبيقات الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى إثارة مخاوف غير مبررة بين المستخدمين، مثل فقدان الوظائف أو انتهاك الخصوصية إذ يعكس ذلك سوء فهم لطبيعة التكنولوجيا وحدود قدراتها، مما يساهم في توسيع الفجوة الرقمية بين من يمتلكون فهما علميا واضحا لدور الذكاء الاصطناعي، وبين من يتبنون مواقف رافضة بدون أسباب موضوعية.
وحول المعايير الصحيحة للتعامل مع الذكاء الاصطناعي لضمان الحصول على المعلومة الدقيقة، أكد السيد حمدي مبارك مهندس البرمجيات الرئيسي وخبير الذكاء الاصطناعي بمعهد قطر لبحوث الحوسبة، في تصريحات خاصة لوكالة الأنباء القطرية /قنا/، أن الاستفادة الصحيحة من تقنيات الذكاء الاصطناعي تتطلب التأكد أولا من وضوح وصحة المعلومات التي يتم إدخالها أو الاستفسار عنها، مشيرا إلى أهمية مراجعة النتائج وعدم قبولها كما هي دون تدقيق، مع ضرورة مقارنتها بمصادر موثوقة أخرى مثل المواقع الرسمية والموسوعات.
وأوضح أن أدوات الذكاء الاصطناعي تعتمد على تحليل البيانات والتعلم من مجموعات البيانات التي تدربت عليها مسبقا، وهي ليست معصومة من الخطأ، مما يستلزم إشرافا بشريا دقيقا لضبط النتائج ومراجعتها باستمرار.
وشدد مهندس البرمجيات الرئيسي وخبير الذكاء الاصطناعي بمعهد قطر لبحوث الحوسبة على ضرورة التحقق من معايير الأمان في إجابات نماذج الذكاء الاصطناعي قبل استخدامها، لتجنب تمرير أي تحيزات وضمان تحديث المعلومات المقدمة مؤكدا أن هذه الإجراءات تتطلب قياس أداء النماذج باستخدام عينات اختبار قياسية لتحديد نقاط القوة والضعف فيها.
ودعا إلى أن تشمل معايير الأمان منع الحصول على معلومات قد تضر الأفراد؛ مثل الترويج لإيذاء النفس أو انتهاك الخصوصية، أو تلك التي قد تؤثر سلبا على المجتمعات، كالتحريض على العنف، وخطاب الكراهية، والشائعات، والتحيز أو التفرقة بين البشر بناء على الدين أو الجنسية أو العرق أو غيرها، مؤكدا في الوقت ذاته على ضرورة عدم استخدام بيانات شخصية أو حساسة في تدريب أو تغذية تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
وقال مبارك في هذا السياق: إن أداء نماذج الذكاء الاصطناعي يختلف حسب اللغة، حيث تتفوق بعض النماذج في اللغة الإنجليزية، بينما تظهر ضعفا في اللغة العربية، وتوجد نماذج قوية في مجالات الرياضيات والتفكير المنطقي، لكنها قد تعاني من قصور في الصياغة الأدبية أو توليد الصور أو كتابة الشعر؛ لذلك، يصبح من الضروري اختبار نماذج الذكاء الاصطناعي في المجال المحدد، والتحقق من دقة المعلومات والمراجع التي تقدمها، مع الالتزام باستخدامها بما يتوافق مع القوانين ويحترم الأفراد والمجتمعات.
ولفت إلى أن العديد من تطبيقات الذكاء الاصطناعي قد تولد معلومات زائفة تعرض بأسلوب يبدو موثوقا، بهدف ترغيب المستخدمين في قبولها دون التحقق منها.
وأضاف أن هذه النماذج قد تنتج أيضا نتائج متحيزة، ما يستدعي ضرورة التعرف على هذه التحيزات ومعالجتها قبل الاعتماد على النتائج، لافتا إلى أن كثيرا من المستخدمين يقعون في فخ “التحيز الآلي” من خلال الاعتماد الكلي على نتائج الذكاء الاصطناعي دون مراجعة أو مقارنة، مما قد يؤدي إلى تشكيل قناعات محددة والتحكم في قراراتهم.
ونبه إلى أن عدم تقديم المستخدمين تفاصيل كافية في أسئلتهم أو سياق الحديث قد تنتج عنه إجابات ناقصة أو غير دقيقة.
من جهة أخرى، حذر من أخطار تزويد تطبيقات الذكاء الاصطناعي بمعلومات شخصية، مشيرا إلى أن هذه التطبيقات قد تستخدم تلك البيانات للتدريب، مما قد يؤدي إلى تسريبها أو مشاركتها مع مستخدمين آخرين.
كما أكد على أهمية توخي الحذر من الاعتماد المفرط على هذه التطبيقات، مشددا على ضرورة الحفاظ على التفكير النقدي البشري كعنصر أساسي في تحليل واستخدام نتائج الذكاء الاصطناعي.
وفي ذات السياق، نصح حمدي مبارك، مهندس البرمجيات الرئيسي وخبير الذكاء الاصطناعي بمعهد قطر لبحوث الحوسبة، المستخدمين بعدم الاكتفاء بالاعتماد على تطبيق واحد من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، مشيرا إلى أن لكل أداة خصائصها التقنية ونقاط قوتها وضعفها، مما قد يؤدي إلى تفاوت في النتائج.
وقال إن “الاعتماد على أكثر من منصة ومقارنة المخرجات بينها يمثل خطوة مهمة نحو التحقق من المعلومات ورفع مستوى الموثوقية، حيث يتيح ذلك للمستخدم تقييم مدى التوافق أو التباين، واستبعاد النتائج غير الدقيقة”.
وأضاف مبارك أن العديد من الدراسات المتخصصة تقيس أداء نماذج الذكاء الاصطناعي في مجالات متنوعة، من بينها اللغات، والعلوم، والطب، ومدى توافق المحتوى مع السياقات الثقافية المختلفة، مبينا أن بعض هذه النماذج تُظهر تفوقًا واضحًا في مجالات محددة مقارنة بغيرها.
وفيما يتعلق بتأثير المعلومات المضللة على المجتمعات، حذر من أن انتشار المحتوى الزائف قد يؤدي إلى تقويض الثقة في المؤسسات العامة ووسائل الإعلام، وتعميق الانقسامات الاجتماعية موضحا أن خطورة هذه الظاهرة لا تقتصر على التضليل فقط، بل تشمل أيضًا تكريس ما يُعرف بـ “غرف حوار مغلقة”، حيث يتعرض الأفراد لمحتوى يعزز قناعاتهم المسبقة دون انفتاح على وجهات نظر مغايرة، وهو ما يضعف الحوار المجتمعي ويحد من التنوع الفكري.
وأشار مهندس البرمجيات وخبير الذكاء الاصطناعي إلى أن عدة دراسات أظهرت أن المعلومات الخاطئة تنتشر بسرعة كبيرة على وسائل التواصل أسرع من المعلومات الصحيحة، ولذا من الممكن أن تسبب مشاكل عدة، مثل نشر الشائعات، أو خلق انقسامات بين الناس، أو التأثير على قرارات مهمة، كما أن الكثير من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، يشاركون أحيانا المعلومة دون التأكد من صحتها، فتتسع دائرة انتشارها.
وفي سياق الجدل الدائر حول مقارنة قدرات الإدراك بين الإنسان والذكاء الاصطناعي، يؤكد حمدي مبارك، أن الذكاء الاصطناعي قادر على معالجة كميات هائلة من البيانات، واستنتاج أنماط وتوليد إجابات بناءً على ما تم تدريبه عليه، لكنه لا يمتلك وعياً ذاتياً.
وشدد على أن الذكاء الاصطناعي لا “يفهم” المعنى كما يفعل الإنسان، ولا يتمتع بإحساس بشري، بل يعتمد على نماذج رياضية إحصائية تتنبأ بالإجابات الأكثر ترجيحاً وفقاً للبيانات.
وأوضح أن العقل البشري يتميز بالقدرة على التفكير العميق، واستيعاب السياقات، والتفاعل مع القيم والثقافات، ما يجعل المقارنة بينه وبين الذكاء الاصطناعي في مجال “الإدراك” غير دقيقة.
وأضاف أن الإنسان يظل الكائن الوحيد القادر على التأمل الأخلاقي، واتخاذ قرارات تتجاوز حدود البيانات والمعطيات التقنية، في حين يبقى الذكاء الاصطناعي أداة إحصائية قوية لا أكثر.
واختتم حمدي مبارك، مهندس البرمجيات الرئيسي وخبير الذكاء الاصطناعي بمعهد قطر لبحوث الحوسبة تصريحاته لـ/قنا/ بالقول، إن الدراسات تشير إلى تفاوت دقة المعلومات من تطبيق لتطبيق ومن موضوع لآخر، لكنه بشكل عام لا يمكن الاعتماد على هذه الأدوات بنسبة 100 بالمئة، حيث تكشف هذه الدراسات، أن نسبة الصحة قد تتراوح بين 40 بالمئة و60 بالمئة في كثير من المجالات، وهذا يعني أن المراجعة والتحقق من مصادر أخرى أمر أساسي.
ووفقا للعديد من الخبراء والمختصين في المجالات الرقمية، فإن الذكاء الاصطناعي لا يعد معجزة خارقة، ولا خطرا مروعا، لكنه أداة قوية يمكن أن تغير المجتمعات للأفضل إذا ما أُحسن استخدامها وفهمها بصورة منطقية وعقلانية، ولكي نستفيد من فوائده ونتجنب مخاطره، فإننا نحتاج إلى القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال لكل ما يصدر عن الذكاء الاصطناعي، مع ضرورة التعامل مع الذكاء الاصطناعي بمنهجية علمية ونقدية فاحصة.