في خضم الحملة الكبيرة التي تقودها البنوك المركزية في منطقة اليورو والمملكة المتحدة لمكافحة التضخم من خلال انتهاج سياسة التشديد النقدي (رفع أسعر الفائدة)، أظهرت أحدث المؤشرات الاقتصادية، تصاعد مخاطر الركود الاقتصادي الناتجة عن رفع معدل الفائدة في بريطانيا ومنطقة العملة الموحدة بقوة، حيث أظهر مؤشر مديري المشتريات PMI انخفاضا في قطاعي التصنيع والخدمات. في حين أشار المختصون إلى بلوغ الذروة في دورات التشديد النقدي (رفع سعر الفائدة) أو الاقتراب منها. وذكرت صحيفة الجارديان البريطانية، في تقرير لها، أن هناك إشارات تشير إلى أن ارتفاع أسعار الفائدة يمكن أن يؤدي إلى تباطؤ سريع في معدلات النمو وتخنق التضخم، وأظهرت أحدث قراءة لمؤشر مديري المشتريات ضعفا في قطاعي الخدمات والتصنيع في المملكة المتحدة، وأضعف أداء منذ فترة الإغلاق الناجمة عن جائحة كوفيد في أوائل عام 2021.
وأكدت الجارديان أن سياسة رفع أسعار الفائدة قد وضعت صانعي السياسات في بريطانيا في حالة تأهب بشأن احتمالية حدوث ركود اقتصادي. تشير القراءة الحالية لمؤشر مديري المشتريات، والذي يراقب عن كثب لقياس صحة الاقتصاد، إلى تراجع نشاط القطاع الخاص في المملكة المتحدة بمقارنته مع مناطق أخرى في أوروبا. ويعتبر مؤشر مديري المشتريات أحد المؤشرات الرئيسية في تقييم الوضع الاقتصادي، ويستخدم لقياس نشاط القطاع الخاص غير المنتج للنفط في الاقتصاد، ويستند على 5 ركائز رئيسية هي الطلبيات الجديدة ومستويات المخزون والإنتاج وحجم تسليم الموردين، وبيئة التوظيف والعمل.
ولاحتساب المؤشر، يتم إرسال مسح شهري لمديري المشتريات في مئات الشركات ضمن الدولة، ويعد المؤشر وفقا لتلك البيانات، ويتم المقارنة بين قراءة المؤشر لكل شهر. وإذا كان المؤشر أعلى من 50، فإنه يشير إلى نمو في القطاع، في حين إذا كان أقل من 50، فإنه يشير إلى تراجع وانكماش في القطاع. هذا المؤشر يمثل أداة قيمة للمتابعة والتحليل الاقتصادي، حيث يساهم في فهم الاتجاهات والتغيرات في القطاع الخاص وقوة النمو الاقتصادي.
وذكرت الجارديان أن مؤشر مديري المشتريات في المملكة المتحدة، والذي أجرته وكالة ستاندرد آند بورز ومعهد تشارترد للمشتريات والتوريد، انخفض من 50.8 في يوليو إلى 47.9 في أغسطس، موضحة أن نشاط قطاع الخدمات انخفض من 51.5 إلى 48.7، في حين انخفض مؤشر مديري المشتريات التصنيعي من 45.3 إلى 42.5. كما أن منطقة اليورو التي تخوض معركة مع التضخم تعاني من انخفاض النشاط إلى أدنى مستوى له منذ نوفمبر 2020. وتتضرر ألمانيا، صاحبة أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، بشكل خاص من تراجع الطلب على سلعها المصنعة.
وأشارت الجارديان البريطانية إلى أن مؤشر مديري المشتريات لمنطقة اليورو، الذي أجراه بنك هامبورغ التجاري (HCB)، أظهر تراجعا في النشاط التجاري الإجمالي من 48.6 في يوليو إلى 47.0 في أغسطس، موضحة أن مؤشر مديري المشتريات للخدمات انخفض من 50.9 إلى 48.3، في حين ارتفع مؤشر مديري المشتريات التصنيعي بشكل طفيف من 42.7 إلى 43.7، ولكن هذا الارتفاع يظل ضمن نطاق التراجع والانكماش في القطاع.
وذكرت الصحيفة أن أداء الولايات المتحدة حتى الآن يظهر قويا مقارنة بأداء أوروبا، وعلى الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي، وهو أكبر اقتصاد في العالم، يبدو قويا إلى حد ما، إلا أنه أظهر أيضا علامات على وجود ضغوط. ففي شهر أغسطس، تباطأ النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة إلى مستوى قريب من مستويات الركود، وهذا يعد أدنى مستوى له في ستة أشهر.
ونقلت الجارديان عن جينيفر ماكيون كبيرة الاقتصاديين العالميين في شركة “كابيتال إيكونوميكس للاستشارات” قولها، إن مؤشرات مديري المشتريات لشهر أغسطس تدعم وجهة النظر التي تتوقع أن منطقة اليورو والمملكة المتحدة قد تدخلان في فترة ركود في الربع الثالث من هذا العام، وألمحت إلى أن الاقتصاد الأمريكي، على الرغم من قوته الحالية، يشهد أيضا تحديات وعلامات ضغط. وأضافت أنه مع استمرار تراجع أسعار الإنتاج يظهر بقوة أنه قد تم الوصول إلى نقطة ذروة في دورات تشديد السياسة النقدية (رفع أسعار الفائدة) أو أنها قد تكون قريبة من الوصول إليها.
كما نقلت الجارديان عن كريس ويليامسون الخبير الاقتصادي في مؤسسة ستاندرد آند، حيث أشار إلى أن مؤشر مديري المشتريات لشهر أغسطس يشير إلى ضرورة تعديل التضخم أكثر في الأشهر المقبلة، ولكنه يشير أيضا إلى أن مكافحة التضخم تحمل تكلفة باهظة من حيث تزايد مخاطر الركود.
وأوضح ويليامسون أن هناك انكماشا جديدا في الاقتصاد قد يكون لا مفر منه، حيث إن التراجع الحاد المتزايد في قطاع التصنيع وما يصاحبه من تعثر قطاع الخدمات، يترتب على ذلك تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.2 بالمائة خلال الربع الثالث من هذا العام حتى الآن. وقال ويليامسون، إن الشركات في بريطانيا تعاني من تأثير أزمة تكلفة المعيشة وانخفاض الطلب على الصادرات وارتفاع أسعار الفائدة مما يثير مخاوف بشأن توقعات النمو الاقتصادي.
وحول التكهنات حول أسعار الفائدة والسقف المتوقع لها، لفت ويليامسون إلى أن التراجع الإضافي في التوظيف يشير إلى ضعف سوق العمل، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض ضغوط الأجور، موضحا أنه بينما يبدو أن هناك توقع زيادة إضافية في أسعار الفائدة في سبتمبر، إلا أن بيانات مؤشر مديري المشتريات لشهر أغسطس تظهر أن أسعار الفائدة قد تقترب من الذروة قريبا.
واختتمت الجارديان بتصريحات لسايروس دي لا روبيا كبير الاقتصاديين في بنك هامبورغ التجاري، قال فيها “قطاع الخدمات في منطقة اليورو يظهر للأسف علامات تراجع لمواكبة الأداء الضعيف في قطاع التصنيع”، وأضاف أن الشركات في قطاع الخدمات أعلنت عن تقلص في نشاطها للمرة الأولى منذ نهاية العام الماضي، فيما استمر انخفاض الإنتاج في قطاع التصنيع. وأشار سايروس إلى أنه بالنظر إلى أرقام مؤشر مديري المشتريات في الناتج المحلي الإجمالي لدينا، فإن “التوقعات الآن تقودنا إلى استنتاج مفاده بأن منطقة اليورو سوف تنكمش بنسبة 0.2 بالمائة في الربع الثالث من هذا العام”.