في الوقت الذي تكافح فيه البنوك المركزية على مستوى العالم من أجل تهدئة موجة التضخم وعدم دخول الاقتصادات في ركود عنيف يبدو أن الأزمة المقبلة ستنفجر في سوق العقارات. فمع كل زيادة في أسعار الفائدة ترتفع الفائدة على قروض الرهن العقاري مما يدفع إلى تراجع الطلب الذي يعاني في الأساس سلسلة طويلة من الأزمات منذ ظهور جائحة كورونا.
وبعيداً من الاقتصاد الصيني الذي يسيطر فيه القطاع العقاري على نحو 30 في المئة ويعاني أزمات خانقة تشهد سوق الرهن العقارية في أميركا حالة من الاضطراب مع زيادة أسعار الفائدة على القروض العقارية، وهو ما دفع بعض المشترين إلى التراجع عن شراء المنازل، إذ ألقى التضخم وارتفاع أسعار الفائدة بظلال ثقيلة على السوق العقارية في السوق الأميركية التي تشهد أعلى نسبة لإلغاء عقود البيع منذ بداية جائحة كورونا عام 2020.
وكان البنك المركزي الأميركي قد رفع سعر الفائدة بمقدار 75 نقطة أساس في يونيو الماضي بعد أن رفعها بمقدار 50 نقطة أساس في مايو ، إضافة إلى زيادة بواقع 25 نقطة أساس في مارس الماضي. ووفقاً لتقرير جديد صادر عن “ريدفين” فقد تم إلغاء نحو 15 في المئة من اتفاقات بيع المنازل في يونيو الماضي. وهذه النسبة كانت 11 في المئة منذ عام واحد، إذ كانت نسبة الفائدة الثابتة على الرهن العقاري لمدة 30 عاماً بداية عام عند ثلاثة في المئة ثم ارتفعت لفترة وجيزة فوق ستة في المئة في منتصف يونيو قبل أن تستقر عند 5.75 في المئة بالوقت الحالي. وتتطلب كلفة امتلاك منزل متوسط السعر نحو 32 في المئة من متوسط الأجر في الولايات المتحدة مقابل 24 في المئة خلال عام السابق.
في الوقت نفسه ووفق تقرير حديث تواجه الأسواق في أستراليا وكندا وأوروبا انخفاضاً في أسعار المنازل، بينما يعتقد المتخصصون في الشأن الاقتصادي أنها بداية الركود الاقتصادي. يقول هيدياكي هيرتا وهو متخصص في الشأن الاقتصادي سابقاً في بنك اليابان ومشارك في تأليف ورقة بحثية لصندوق النقد الدولي حول أسعار المنازل العالمية إن سوق الإسكان ستشهد تباطؤاً عالمياً في عامي 2023 و2024.
وانعكس ارتفاع كلفة التمويل العقاري على الاقتصادات بعدة طرق، إذ أدت مدفوعات الرهن العقاري المتزايدة في ثني المشترين المحتملين عن دخول السوق، ممما سينعكس على ازدهار أسعار العقارات. ويعد التباطؤ الحالي تحولاً صارخاً من الطفرة التي غذتها سياسات التمويل الميسر للبنوك المركزية في السنوات التي أعقبت الأزمة المالية، ومن ثم خلال الوباء الذي دفع عديد للبحث عن منازل بمساحات أكبر.
وكشف تقرير لوكالة “بلومبيرغ” عن أن مدى تعرض المقترضين للمعدلات المرتفعة يختلف بحسب البلد. فعلى سبيل المثال في الولايات المتحدة، يعتمد معظم المعترضين على قروض المنازل ذات السعر الثابت لمدة تصل إلى 30 سنة ومثلت القروض العقارية ذات السعر القابل للتعديل في المتوسط نحو سبعة في المئة من القروض خلال السنوات الخمس الماضية.
وعلى النقيض من ذلك في الدول الأخرى عادة ما تكون القروض ثابتة لمدة لا تقل عن سنة أو قروضاً عقارية متغيرة تتماشى بشكل وثيق مع أسعار الفائدة الرسمية، وكانت نسب القروض المتغيرة أعلى في أستراليا وإسبانيا والمملكة المتحدة وكندا في عام 2020 وفقاً لتقرير وكالة “فيتش” للتصنيفات الائتمانية، فيما كان لأستراليا وإسبانيا والمملكة المتحدة وكندا أعلى تركيز للقروض متغيرة السعر كحصة من الأصول الجديدة في عام 2020 وفقاً لوكالة “فيتش” للتصنيفات الائتمانية.
يقول نيراج شاه من “بلومبيرغ إيكونوميكس”، “إذا شددت البنوك المركزية أكثر من اللازم فإن احتمالية الهبوط الناعم تتضاءل وأسعار المساكن يمكن أن تنخفض بشكل أسرع مما يؤدي إلى تفاقم الركود وإطالة أمده”.
وفي بعض البلدان تدخلت الحكومات بالفعل لمساعدة المستهلكين الذين يعانون ضغوطاً شديدة على مواجهة تسديدات متصاعدة بسرعة، ففي كوريا الجنوبية وهي من أوائل اقتصادات منطقة آسيا والمحيط الهادئ التي بدأت في رفع معدلات الفائدة، وافق صناع السياسة أخيراً على إنفاق أكثر من 400 مليار وون (290 مليون دولار) من الأموال للمساعدة في تقليل حصة الأسر في الرهون العقارية متغيرة السعر.
وفي بولندا، حيث تضاعفت المدفوعات الشهرية لبعض المقترضين مع ارتفاع أسعار الفائدة، تدخلت الحكومة في وقت سابق من هذا العام للسماح للبولنديين بتعليق المدفوعات لمدة تصل إلى ثمانية أشهر. وقضت هذه الخطوة على أرباح البنوك الكبرى بعد أن اضطرت الصناعة إلى حجز نحو 13 مليار زلوتي (2.78 مليار دولار) في المخصصات.
وفي السويد التي كانت في السابق واحدة من أكثر الأسواق سخونة في أوروبا من حيث الطلب على العقار انخفضت أسعار المنازل بنحو ثمانية في المئة منذ الربيع ويتوقع معظم الاقتصاديين الآن انخفاضاً بنسبة 15 في المئة.
وبينما تتعامل الصين مع أزمة عقارية متصاعدة مرتبطة بموجة من التخلف عن السداد لدى أكبر المطورين العقاريين امتنع المقترضون عن سداد مدفوعات الرهون العقارية للمنازل غير المبنية. وأظهرت بيانات بنك الشعب الصيني أن قروض الملكية شكلت ما يزيد قليلاً على ربع الائتمان المصرفي في الصين حتى نهاية يونيو، ولا تزال القروض العقارية من الأصول عالية الجودة في الميزانية العمومية للبنك عند مقارنتها بقروض الشركات المعرضة للكدمات.
ويقول هاري هو أحد كبار المديرين في وكالة التقييم الائتماني “أس أند بي غلوبال ريتينغ” إن ثلثي البنوك الإقليمية الـ35 المدرجة التي كشفت عن المعلومات شهدت زيادة في قروضها المتعثرة لمطوري العقارات في الأشهر الستة الأولى. فعلى سبيل المثال شهد بنك “غينتشو” في مقاطعة لياونينغ الشمالية أعلى نسبة للقروض المتعثرة للمطورين ووصلت إلى مستوى 10.37 في المئة بنهاية يونيو ارتفاعاً من مستوى 9.77 في المئة بنهاية العام الماضي وتقريباً ضعف المستوى في عام 2020.
وبلغت نسبة القروض المتعثرة المعرضة لقطاع البناء بشكل رئيس المقاولين من الباطن في مواقع البناء بنحو 9.39 في المئة مقابل نحو 7.78 في المئة بنهاية عام 2021 كما تعرض بنك “جينشانغ” في تايوان عاصمة مقاطعة شانشي في شمال الصين لضربة شديدة مما جعل قروضه تتضاءل في قطاع بناء المنازل كما ارتفعت نسبة القروض المتعثرة للمطورين إلى 10.29 في المئة بزيادة 10.01 نقطة مئوية عن عام 2020.
وبالمقارنة بلغ متوسط نسبة القروض المتعثرة بين البنوك التجارية مستوى 1.67 في المئة، ومن المرجح أن تستمر القروض المعدومة المستحقة على شركات بناء المنازل في النمو مع تحول قطاع العقارات الصيني من أزمة إلى أخرى وتخلف 21 مطوراً رئيساً عن سداد ديونهم التي تتعذر إدارتها في العام الماضي وأبرزها مجموعة “تشانيا إيفرغراند”، وسيرتفع متوسط نسبة القروض المتعثرة لدى البنوك الصينية في قطاع التطوير العقاري إلى 5.5 في المئة بحلول نهاية العام مقارنة بنسبة 2.6 في المئة على مستوى القطاع ببداية العام.