بات التضخم الشغل الشاغل لمعظم البنوك المركزية العالمية، وقام مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأمريكي) برفع أسعار الفائدة القياسي الشهر الماضي، لتصل إلى أعلى مستوى لها خلال 22 عاما، وأبقى البنك الباب مفتوحا لمزيد من الزيادات هذا العام وذلك للتغلب على التضخم. وبالمثل اتخذ البنك المركزي الأوروبي خطوات لمكافحة التضخم فقد قرر رفع معدلات الفائدة للمرة التاسعة على التوالي وذلك للسيطرة على التضخم المستمر في منطقة اليورو. كما رفع بنك إنجلترا (البنك المركزي في المملكة المتحدة) سعر الفائدة، مؤخرا، للمرة الـ 14 لمكافحة التضخم في المملكة المتحدة.
وتثير هذه الإجراءات الاستفهام حول سبب صعوبة السيطرة على التضخم، على الرغم من الجهود الكبيرة التي تبذل. وتقدم وكالة “بلومبيرج” تفسيرا لهذه الظاهرة. فبعد أن أنفقت الحكومات بشكل كبير وبدون قيود لتخفيف تداعيات وباء جائحة كورونا بدأت الأسعار في الارتفاع بأسرع وتيرة منذ عقود، وشرعت البنوك المركزية في تشديد السياسة النقدية الأكثر حدة منذ 40 عاما. وأضافت الوكالة أنه في حين أن التضخم خفت حدته، إلا أن المعركة لمكافحته مازالت مستمرة.
وذهبت ” بلومبيرج” لتعريف التضخم، حيث ذكرت أنه زيادة في الأسعار الإجمالية في اقتصاد ما خلال فترة زمنية، سواء كانت شهرية أم سنوية وما يصاحب ذلك من انخفاض في القوة الشرائية، وأشارت إلى أن إحدى الأساليب الشائعة لقياس التضخم تتمثل في تتبع تغير تكلفة سلة السلع التي تشتريها أسرة نموذجية، وتشمل هذه السلع الأساسية مثل الغذاء والسكن والخدمات.
وأكدت “بلومبيرج” أن مهمة البنوك المركزية تتلخص في إبقاء التضخم تحت السيطرة، فهذه البنوك تقوم بتحديد أسعار الفائدة وتستخدم أدوات سياسة نقدية أخرى بهدف الحفاظ على معدلات التضخم في نطاق “صحي”، وأشارت إلى أن في العديد من البلدان المتقدمة مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يعتبر معدل التضخم المثالي حوالي 2 بالمئة.
وحول من يتساءلون ما إذا كان التضخم دائما شيء سيء، أوضحت “بلومبيرغ” أن الإجابة ببساطة لا. ففي الاقتصاد الآخذ في النمو، من المتوقع حدوث بعض التضخم مع ارتفاع الأجور وزيادة الطلب على السلع والخدمات. ويعتبر الانخفاض العام في الأسعار، أو الانكماش المالي، علامة على ضعف الاقتصاد. وأوضحت أن العنصر الأساسي هو معدل التضخم، فإذا ارتفعت وتيرة نمو الأسعار عن معدلات الأجور، سيؤدي ذلك إلى تقليل القوة الشرائية للأفراد العاديين، وهو ما يؤثر سلبا على الأسر والاقتصاد بشكل عام.
ونقلت وكالة “بلومبيرج” عن مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية أنه في عام 2022، عندما شهدنا تصاعدا في معدلات التضخم وزيادة في الأسعار، حذر كبار الاقتصاديين من أن هذا قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية في البلدان ذات الدخل المنخفض. وبالفعل، شهد هذا العام موجة من الاحتجاجات في العديد من دول العالم نتيجة ارتفاع تكاليف المعيشة.
وحول الأسباب التي تؤدي إلى حدوث التضخم، ذكرت ” بلومبيرج” أنه يمكن تلخيصها في ثلاثة عوامل رئيسية وهي العرض والطلب والتوقعات، موضحة أن الاضطرابات في توريد السلع والخدمات تؤثر بشكل مباشر على أسعارها، حيث يمكن أن زيادة جانب الطلب يحدث عندما تزيد الحكومة إنفاقها من خلال زيادة الإنفاق أو خفض الضرائب، كما يمكن أن يؤدي تخفيض أسعار الفائدة من قبل البنك المركزي أو تجاوز الطلب للقدرة الإنتاجية للاقتصاد إلى زيادة في التضخم.
وأضافت الوكالة أنه فيما يتعلق بالتوقعات، فإن القلق الأكبر بين محافظي البنوك المركزية هو أنه بمجرد أن يصبح التضخم راسخا، فإنه يصبح معززا ذاتيا، بحيث أنه إذا توقع أصحاب الأعمال أن يظل التضخم أعلى من المعتاد، فإنهم يرفعون الأسعار، وفي مواجهة ارتفاع الأسعار، يطالب العمال بأجور أعلى، وهذا يغذي المزيد من التضخم.
وأشارت الوكالة إلى حالات سابقة تجلت في تاريخ الولايات المتحدة في السبعينيات وأوائل الثمانينيات، حيث قام بنك الاحتياطي الفيدرالي في عهد بول فولكر برفع أسعار الفائدة إلى 20 بالمئة، مما أدى إلى حدوث فترتي ركود اقتصادي، لتنخفض الأسعار في النهاية.
وذكرت الوكالة أنه وفي الحالات القصوى، يمكن أن يؤدي ذلك إلى ما يعرف باسم “دوامة الأجور والأسعار”، حيث تصبح الأجور المرتفعة والتكاليف المرتفعة حلقة منفصلة عما يحدث في الاقتصاد الأكبر. ويظل هذا يشكل تهديدا، وفقا لبعض الاقتصاديين، على الرغم من أن الجزء الأكبر من التضخم مدفوع بأسعار المواد الغذائية والطاقة، وليس تكاليف العمالة.
وحول أسباب حدوث التضخم هذه المرة، أشارت “بلومبيرغ” إلى وقوع صدمة في سلسلة الإمدادات خلال الأيام الأولى لظهور الوباء، فقد أدى إغلاق المصانع في الصين وتباطؤ نقل البضائع إلى نقص جزء كبير من المكونات الأساسية. وكان لا بد في العديد من الحالات من تحميل تكاليف إضافية على المستهلكين. وأدى التعافي بعد الجائحة إلى زيادة الطلب على الطاقة، والذي تزامن في أوروبا مع انخفاض إنتاج توربينات الرياح ونقص في الغاز الطبيعي. ونتيجة لذلك، تضاعفت أسعار الكهرباء أكثر من ثلاثة أضعاف في النصف الثاني من عام 2021.
وأردفت الوكالة أنه كانت هناك صدمة إمداد ثانية بعد أن واجهت روسيا عقوبات جراء الحرب في أوكرانيا، ما أسفر عن تقييد صادرات الغاز الطبيعي إلى أوروبا.. أما من ناحية الطلب، قامت العديد من الدول بتنفيذ برامج ضخمة لمواجهة التداعيات الاقتصادية للجائحة، حيث تم ضخ تريليونات الدولارات في اقتصاداتها، إلى جانب ذلك قامت البنوك المركزية بتنفيذ سياسات تيسير نقدي، مثل خفض أسعار الفائدة، مما أدى إلى زيادة في الإنفاق والاستثمار.
وأشارت إلى أن الطريقة الأساسية التي تتعامل بها البنوك المركزية مع التضخم هي زيادة سعر الفائدة الذي تقرض به البنوك بعضها البعض، موضحة أن الفكرة هي أنه عندما يصبح الاقتراض أكثر تكلفة بالنسبة للبنوك، فإنها ستنقل ذلك إلى الشركات والمستهلكين، الذين سيقترضون وينفقون بصورة أقل، مما يؤدي إلى تهدئة الاقتصاد.
واختتمت وكالة “بلومبيرج” تقريرها بالتأكيد على أن أسعار الفائدة غالبا ما تعد أداة فظة، مما يعني أنه من الصعب استخدامها بدقة ضد أي شيء يضر بالاقتصاد، موضحة أن رفع معدلات الفائدة قد يكون له تأثير في الحد من التضخم، لكن في الوقت نفسه، قد يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي العام، وهناك دائما خطر تجاوز الحد وحدوث ركود اقتصادي.