يواجه الاقتصاد العالمي مخاطر مزدوجة، ناتجة عن ارتفاع التضخم وتباطؤ النمو في آنٍ واحد، بعد أكثر من سنتين من الركود الاقتصادي العالمي الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، من جراء تفشي جائحة فيروس كوفيد – 19.
ومن المرجح أن يتراجع النمو الاقتصادي العالمي في العام الجاري، نتيجة الحرب الدائرة في أوكرانيا التي اندلعت قبل 4 أشهر، والارتفاع الشديد لمعدل التضخم، وتصاعد أسعار الفائدة.
وتشير آخر توقعات البنك الدولي، إلى تخفيض كبير في الآفاق المستقبلية، إذ يُتوقع أن يتباطأ النمو العالمي بشكل حاد هذا العام إلى 2.9 % من 5.7 % في عام 2021. كما يعكس ذلك تخفيضاً بنحو الثلث لتنبؤات يناير الفائت التي توقعت أن يصل النمو إلى 4.1 % هذا العام. ويُعزى أغلب هذا التخفيض الكبير إلى الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة والغذاء، إلى جانب الاضطرابات الحاصلة في سلاسل التوريد وحركة التجارة العالمية والتدابير الضرورية التي يجري تنفيذها حالياً لإعادة أسعار الفائدة إلى معدلاتها العادية.
هذه التطورات تثير المخاوف بشأن الركود التضخمي، وهو عبارة عن مزيج من ضعف النمو وارتفاع معدل التضخم.
اختناقات سلاسل التوريد
ارتفع التضخم العالمي بصورة حادة من أدنى مستوياته منتصف عام 2020 نتيجة انتعاش الطلب العالمي واختناقات سلاسل التوريد، والارتفاع الكبير في أسعار الغذاء والطاقة.
ففي أبريل الماضي، وصل معدل التضخم العالمي إلى 8.7%، ووصل المعدل في الاقتصادات الصاعدة والنامية إلى أعلى مستوياته خلال 14 عاماً عند 4.9%، كما قفز في الاقتصادات المتقدمة أعلى مستوى له خلال 40 عاماً. وكان المعدل أعلى من النطاقات المستهدفة في جميع الاقتصادات المتقدمة ونحو 90% من الاقتصادات الصاعدة والنامية التي وضعت أهدافاً متعلقة بالتضخم.
ورغم توقعات تراجع التضخم إلى 3 % منتصف العام المقبل، فإنه سيبقى مع ذلك مرتفعا بمقدار نقطة مئوية واحدة فوق مستواه المتوسط خلال عام 2019.
ومن المرجح أن تبقى وتيرة نمو الأسعار أعلى لفترة أطول مما هو متوقع حالياً، مع وصول التضخم حالياً إلى أعلى مستوياته على مدى عدة عقود في الكثير من البلدان، وتوسع جانب العرض ببطء.
وترى دراسة للبنك الدولي أن خطر استمرار معدل التضخم فوق المستهدف، ومعدل النمو دون المتوسط لسنوات عديدة، هي ظاهرة لم يشهدها العالم منذ سبعينيات القرن العشرين.
غير أن الأوضاع الحالية تختلف عن سبعينيات القرن العشرين في نواحٍ عدة، منها أن الدولار الذي كان شديد الضعف وقتها، قوي الآن، أما أسعار النفط التي زادت بمقدار 4 أضعاف في الفترة من 1973 – 1974، وبمقدار ضعفين في الفترة من 1979 – 1980؛ فهي حالياً لا تتجاوز ثلثي مستواها الذي وصلت إليه في عام 1980 بعد استبعاد أثر التضخم. كما أن المركز المالي لكبريات المؤسسات قوي بوجه عام، في حين كان معرضاً للخطر في سبعينيات القرن العشرين، وفق الدراسة.
تجربة السبعينيات
على الجانب الآخر، من المتوقع أن يتباطأ نمو الاقتصاد العالمي ويتراجع إلى 2.9% في العام الجاري و3% خلال السنوات من 2023 إلى 2024، وفق تقديرات البنك الدولي، وذلك بسبب الحرب في أوكرانيا، وتراجع الطلب المكبوت، فضلاً عن سحب الدعم المتاح لكبح التضخم المرتفع.
وفيما يتجاوز المدى القريب، يتوقع أن يتباطأ النمو العالمي بشكل أكبر خلال العقد الجاري، ما يعكس اتجاهاً سائداً يتمثل في ضعف المحركات الأساسية للنمو. الظروف غير المواتية التي يمر بها الاقتصاد العالمي، تأتي بعد عام تعافي فيه من جائحة «كوفيد -19» ونما 5.7% خلال 2021.
هذه التطورات تثير المخاوف بشأن الركود التضخمي، على نحو يماثل ما حدث في سبعينيات القرن الماضي، حيث تعد تجربة السبعينيات تذكير بوجود مخاطر كبيرة بأن يظل التضخم مرتفعاً أو يواصل ارتفاعه إذا استمرت الصدمات على جانب العرض، أو أصبحت توقعات التضخم خارج النطاق المستهدف، أو تلاشت القوى المضادة للتضخم على المدى الطويل.
زيادة أسعار الفائدة
إذا خرجت توقعات التضخم عن النطاق المستهدف نتيجة لاستمرار ارتفاع التضخم وتكرار الصدمات التضخمية، فإن زيادة أسعار الفائدة المطلوبة لإعادة مستوى التضخم إلى النطاق المستهدف ستكون أكبر من الزيادات التي تتوقعها الأسواق المالية حالياً. وهذا بدوره يزيد من شبح حدوث زيادات كبيرة في أسعار الفائدة التي أسهمت في احتواء التضخم، لكنها أحدثت ركوداً اقتصادياً عالمياً قبل نحو 40 عاماً، تزامن مع الأزمات المالية، وكان بداية فترة طويلة من ضعف النمو في الكثير من اقتصادات الأسواق الصاعدة والنامية.
وإذا ما ازدادت حدة ضغوط الركود التضخمي حالياً، فسوف تواجه اقتصادات الأسواق الصاعدة والنامية على الأرجح تحديات شديدة مرة أخرى بسبب التوقعات التضخمية الأقل ثباتاً لديها، ومواطن الضعف المالي المرتفعة، وضعف أساسيات النمو، ومن ثم سيكون من الضروري أن تدعم الأسواق الناشئة والصاعدة هوامش الأمان المالي، وتقوية أطر سياستها النقدية، وتنفيذ إصلاحات لاستنهاض النمو.
الاقتصادات المتقدمة
يمثل إنهاء الطابع التيسيري للسياسات النقدية في الولايات المتحدة والاقتصادات المتقدمة الأخرى، جنباً إلى جنب مع الزيادة الناشئة في تكلفة الاقتراض على مستوى العالم، وضعاً آخر معاكساً وغير مواتٍ إلى حد كبير أمام البلدان النامية. بالإضافة إلى ذلك، سيتم على مدى العامين المقبلين إنهاء أغلب تدابير الدعم من المالية العامة المقدمة في عام 2020 لمكافحة «الجائحة»، على الرغم من أن مستويات الدين ستظل مرتفعة.
ومع إنهاء الطابع التيسيري للسياسات، سيكون من المهم الحد من عدم المساواة والبحث عن دخل أعلى للجميع من خلال استخدام الأدوات المالية والنقدية التي تقوي سلاسل التوريد، وتعزز منشآت الأعمال الصغيرة، وتحسّن عملية تخصيص رأس المال.
الاقتصادات النامية
تسببت جائحة كورونا بالأساس في حدوث انتكاسة كبيرة في مسار نمو الدخل وجهود الحد من الفقر في الاقتصادات النامية، كما أن تداعيات الحرب الدائرة في أوكرانيا فاقمت التحديات للكثير من هذه الاقتصادات. ومن المتوقع أن يبلغ معدل نموها 3.4% في عام 2022، أي بالكاد نصف المعدل الذي وصلت إليه في 2021، وأقل بكثير من المتوسط السائد في الفترة بين 2011 و2019. وعلى نحو مماثل، جرى خفض تنبؤات النمو للبلدان متوسطة الدخل بشكل حاد في عام 2022، حيث خسرت 1.3 نقطة مئوية مقارنة بتوقعات شهر يناير.
سيظل نصيب الفرد من الدخل الحقيقي في عام 2023 أقل من مستوياته التي سادت قبل جائحة «كورونا» بنحو 40% في الاقتصادات النامية. وبالنسبة للكثير من البلدان، سيكون من الصعب تجنب مخاطر الركود الاقتصادي، ومع القيود المفروضة على إمدادات الغاز الطبيعي، لا سيما في استعماله في الأسمدة وشبكات الكهرباء في البلدان الأفقر، سيكون الإعلان عن زيادات كبيرة في الإنتاج على مستوى العالم عاملاً أساسياً لاستعادة النمو غير التضخمي.
الحد من الأضرار الواقعة
يتطلب تخفيض مخاطر الركود التضخمي اتخاذ تدابير موجهة من جانب واضعي السياسات حول العالم، ففي هذه الحقبة الاستثنائية التي تتداخل فيها الأزمات العالمية، سيكون على واضعي السياسات في كل مكان تركيز جهودهم على عدة مجالات رئيسية، لخصتها دراسة للبنك الدولي كالتالي.
- الحد من الأضرار الواقعة على السكان المتضررين من جراء الحرب الدائرة في أوكرانيا.
- مجابهة القفزة المفاجئة في أسعار النفط والغذاء، عبر تعزيز إمداد السلع الأولية الرئيسية.
- دعم شبكات الأمان الاجتماعي وتجنب فرض القيود على الصادرات والواردات التي تتسبب في تضخيم زيادات الأسعار.
- تكثيف الجهود المبذولة لتخفيف أعباء الدين، إذ كانت المخاطر المتعلقة بالديون حادة على البلدان منخفضة الدخل حتى في الفترة التي سبقت «الجائحة».
- تدعيم الاستعدادات والجهود الصحية لاحتواء فيروس كورونا.
- تسريع التحول إلى مصادر الطاقة منخفضة الكربون، ويتطلب ذلك ضخ المزيد من الاستثمارات في شبكات الكهرباء ومصادر الطاقة الأنظف ورفع كفاءة استخدام الطاقة.