تتزايد المخاوف الاقتصادية والتجارية عالميا في ظل تفاقم أزمات الديون، وتصاعد الرسوم الجمركية، وتنامي حالة عدم الاستقرار المالي في الدول الناشئة. وقد أصبح نظام التجارة العالمي يواجه ضغوطا متنامية تهدد ركائزه التقليدية، نتيجة لجملة من التحديات؛ أبرزها تزايد الحواجز التجارية، وتبني سياسات إعادة التحوط، وتعطل جزئي في آليات تسوية المنازعات الدولية، إلى جانب الاضطرابات اللوجيستية التي أدت إلى ارتفاع تكاليف الشحن.
كما أسهم تسارع التحولات التكنولوجية والرقمية في تعميق الفجوة بين الدول، نتيجة تفاوت قدراتها على المواكبة والتكيف. هذه العوامل مجتمعة قلصت مكاسب العولمة والتطور التقني، وأسهمت في إعادة رسم خريطة سلاسل الإمداد العالمية للسلع والخدمات على حد سواء.
وفي السياق، حذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أن نظام التجارة العالمي القائم على القواعد المعروفة يواجه خطر الخروج عن مساره، لافتا إلى أن دولا عديدة تواجه أزمة مديونية ضخمة، وتنفق أموالا على خدمة الدين أكثر مما تخصصه لتمويل الصحة والتعليم.
ودعا غوتيريش إلى خفض تكاليف الاقتراض ومخاطره، وتوفير دعم أسرع للبلدان التي تواجه أزمات دين، وقال: “إن البلدان النامية تواجه مخاطر عدم اليقين وتراجع الاستثمارات والتذبذب في سلاسل التوريد، كما أن الحواجز التجارية آخذة في الارتفاع، وبعض الدول الأقل نموا تواجه رسوما جمركية باهظة تبلغ 40 في المئة.
ووفقا لبيانات اقتصادية دولية، فإن التجارة العالمية تواجه جملة من التحديات؛ منها استمرار الجمود حول إصلاح جهاز تسوية المنازعات الدولية، وتعطل مسارات الملاحة الدولية في بعض الممرات المائية، مثل بعض الأزمات في البحر الأحمر وغيره، بالإضافة لارتفاع أسعار الحاويات التي أثرت بشكل مباشر على تكاليف الاستيراد وأسعار الاستهلاك، ما خلف آثارا متفاوتة على الدول والقطاعات الحساسة لأسعار الشحن.
وحول الأسس والمعايير التي قام عليها نظام التجارة العالمي، قال الدكتور عبدالله الخاطر الخبير الاقتصادي في تصريحات خاصة لوكالة الأنباء القطرية “قنا” : إن نظام التجارة العالمي يستند إلى تفاهمات قديمة صيغت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن المفاهيم التجارية قد تغيرت في الوقت الحاضر إلى المفهوم الأكبر وهو العولمة الرقمية والتقنية التي اجتاحت نمط وأساليب الحياة الاقتصادية والتجارية، مشيرا إلى أن النظام التجاري العالمي يجابه من ناحية التبادل التجاري تحديات تتمثل في المخاطر البنيوية من حيث المفاهيم والمعارف والمعايير.
وأوضح الخاطر أن العالم الآن يتجه لإعادة تقييم المفاهيم التجارية القديمة وقياسها، مع ضرورة تطويرها وتطبيقها وفقا للنظم الحديثة.
وبشأن الحلول التي تعيد النظام التجاري العالمي لمساره الطبيعي، أوضح الخبير الاقتصادي أن أسلوب التفاوض بشأن النظم التجارية على المستوى الدولي هو الأسلوب الأفضل، خاصة فيما يتعلق بالرسوم الجمركية التي تطالب وتتمسك بها الولايات المتحدة، وهو الحق الذي تطالب به كل دولة في الوقت ذاته، محذرا من أن ذلك يدخل النظام التجاري الدولي في مرحلة من الفوضى، وهذا واقع لا يوفر مناخا للتوصل لرؤية مشتركة لأصحاب المشاريع والشركات، كما يحدث اضطرابا في سلاسل التوريد، وفي مجالات النقل والنظم المالية والنقدية.
واختتم الدكتور عبدالله الخاطر الخبير الاقتصادي تصريحاته لـ/قنا/ بالتأكيد على ضرورة التركيز على سلامة بنية النظام التجاري الدولي، لمواجهة التعقيدات التي تواجه إيصال سلاسل التوريد، وتفادي تداعيات غير معروفة تؤخر القرارات وتعطل آليات الاقتصاد العالمي، وحتى لا يمضي وضع النظام التجاري العالمي إلى حالة من التردد لدى الدول والمؤسسات والشركات والأفراد، فحالة استقرار النظام التجاري تزيل المخاوف والآثار السلبية من مسار الاقتصاد العالمي.
كما شدد على ضرورة تجاوز تذبذب العلاقات التجارية وازدياد التكاليف التي ظهرت في الكساد الكبير إبان تفشي جائحة كورونا ، التي دفعت العديد من المؤسسات والشركات والأفراد إلى الإفلاس.
ومن جهته، قال الدكتور عمر غرايبة الأستاذ المشارك في إدارة المخاطر الاستثمارية بجامعة آل البيت بالأردن في تصريحاته لـوكالة الأنباء القطرية” قنا” : “إن نظام التجارة العالمي يستند إلى منظومة معقدة من القواعد والمعايير التي تمثل الإطار المرجعي للتجارة متعددة الأطراف منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وترتكز هذه المنظومة على مبادئ أساسية؛ أبرزها عدم التمييز بين الشركاء التجاريين وفق مبدأ “الأفضلية الأكثر رعاية”، والمعاملة الوطنية التي تضمن المساواة بين السلع المحلية والمستوردة، إضافة إلى الشفافية في السياسات التجارية، والالتزام بخفض الحواجز الجمركية وغير الجمركية، كما تعتمد على آلية تسوية المنازعات لضمان احترام القواعد وتحقيق العدالة بين الدول الأعضاء، استنادا إلى اتفاقية الجات وغيرها من الاتفاقيات المكملة التي تشكل العمود الفقري للنظام التجاري الدولي”.
ورأى الدكتور غرايبة أن النظام التجاري العالمي يواجه اليوم مخاطر حقيقية تهدد بخروجه عن مساره الطبيعي، وتتجلى هذه المخاطر في تسارع وتيرة الحمائية التجارية.
وحول كيفية مواجهة هذه التحديات بحلول واقعية، أوضح الدكتور عمر غرايبة أن الحاجة تدعو لإحداث مقاربة جماعية تقوم على استعادة الثقة بالنظام المتعدد الأطراف، وإصلاح آليات منظمة التجارة العالمية بشكل جوهري، وقال: “يتطلب هذا الإصلاح معالجة إشكالية آلية “الإجماع” المعطلة من خلال اعتماد مقترحات عملية مثل مبدأ “باريتو” الذي يلزم الأعضاء المعترضين بتقديم أدلة واضحة على الأضرار التي قد تنجم عن القرارات المقترحة، وإحياء هيئة الاستئناف المتوقفة منذ 2019، إلى جانب تحديث جدول أعمال المنظمة ليشمل تنظيم التجارة الرقمية وتبادل البيانات، ووضع أطر للتعامل مع الذكاء الاصطناعي وتأثيره على التجارة، بما يضمن بقاء المنظمة ذات الصلة بالتحديات المعاصرة.
وبشأن النسب التي وصل إليها الدين العالمي، قال الدكتور غرايبة إن بيانات المؤسسات المالية الدولية تشير إلى أن الدين العالمي بلغ نحو 235 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية عام 2024، وفق صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وأبان أن الأرقام تُظهر تفاوتا واضحا بين الاقتصادات؛ إذ ترتفع نسب المديونية في الاقتصادات المتقدمة لتتجاوز 260 بالمئة، مقابل ما بين 80 بالمئة و110 بالمئة في الأسواق الناشئة، بينما تواجه العديد من الدول النامية أعباء ديون خانقة تجعلها عاجزة عن تمويل أولوياتها التنموية.
ورأى أن الحل للخروج من دائرة المديونية الخانقة أن تعمل الدول المستدينة على إيجاد خارطة طريق اقتصادية متكاملة تبدأ بإعادة هيكلة الديون وتخفيف أعبائها من خلال تمديد آجال السداد وخفض الفوائد، مرورا بإصلاح نظمها الضريبية وزيادة الإيرادات دون المساس بالطبقات الفقيرة، وانتهاء بإعادة توجيه الإنفاق العام نحو قطاعات إنتاجية قادرة على تحفيز النمو وخلق فرص العمل، كما أن تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد يمثلان شرطا أساسيا لاستعادة ثقة المستثمرين الدوليين وجذب تمويل مستدام، بما يسهم في بناء اقتصاد أكثر توازنا وعدالة في النظام التجاري العالمي.
واختتم الدكتور عمر غرايبة، الأستاذ المشارك في إدارة المخاطر الاستثمارية بجامعة آل البيت في الأردن، تصريحاته لـ/قنا/ بالقول: “مع اقتراب عام 2030، يبدو مستقبل النظام التجاري العالمي مرهونا بقدرة الدول على تجاوز النزعات الانعزالية واستعادة روح التعاون المتعدد الأطراف، فإما أن يشهد العالم نظاما تجاريا أكثر انفتاحا وشمولا قائما على الابتكار والعدالة، أو أن تتكرس التكتلات الإقليمية كجزر اقتصادية متنافسة تُعيد رسم خريطة العولمة بمعايير جديدة توازن بين السيادة الوطنية والمصالح المشتركة.
وكان خبراء التجارة الدولية قد قدموا توصيات للدول النامية وصانعي القرار بضرورة إحياء وإصلاح آليات تسوية المنازعات التجارية، ودعوا إلى تنسيق سياسات الرقمنة التجارية، ووضع قواعد تشريعية دولية تسهل نقل التكنولوجيا، مع ضمان مشاركة الدول النامية، إلى جانب تنويع الموردين وتعزيز المرونة دون التضحية بالكفاءة، والعمل على الاستثمار في البنية التحتية الرقمية والتعليم، وتجنب فخ احتكار التقنيات، فضلا عن تمكين الشركات الصغيرة من الاستفادة، وتعزيز التعاون الإقليمي بالاتفاقيات المرنة التي يمكن أن تحافظ على قنوات التجارة وتقلل التكاليف.
وحسب المختصين، فإن العوامل المتداخلة التي تهدد مسار نظام التجارة العالمي عن مساره المعهود تبقى قائمة، لكن الخيار الأمثل هو التوازن الذكي بين المرونة والانفتاح، وإصلاح مؤسسات الحوكمة الدولية، وتنسيق سياسات التكنولوجيا، ودعم الدول النامية والضعيفة، وهو ما سيحد من مخاطر الانحراف عن نظام تجارة مستقر يحقق الفائدة لجميع الشركاء.


